توظيف الحكاية الشعبية في الشعر الأمازيغي الحديث
فؤاد ازروال
إن التطرق لموضوع توظيف الحكاية الشعبية في الشعر الأمازيغي الحديث، يتطلب الوقوف عند مفهوم الحكاية الشعبية في الأدب الأمازيغي الشفهي لتبيان خصائصها ومقوماتها و مجالات اشتغالها، كما يقتضي الحديث عن ماهية الشعر الأمازيغي الحديث ومميزاته وظواهره الفنية والمعنوية الجارية و المهيمنة، ويستوجب أيضا، النظر في طبيعة التعالقات و التقاطعات التي كانت تجمع بينهما في إطار الأدب التقليدي الشفهي، ثم انتقلت معهما إلى إطار الأدب الحديث والمكتوب.
ويذهب أغلب الدارسين إلى أن كلا من "الحكاية" و"الشعر" شكلا ـ على مر العصور ـ أهم مظاهر الإبداع الأدبي الأمازيغي، و إليهما يرجع الفضل في بقاء اللغة الأمازيغية وثقافتها حيتين و نشيطتين. و بفضل ما يشملان من تصورات و رؤى واستعارات وأخيلة أصبحا مخزونا رئيسيا للتراث الفني والثقافي وعاملا مركزيا في تنشيط مختلف أوجه الخلق التخيلي و إثرائها.
وقد وفر كل من هما ( أي الحكاية و الشعر) للإنسان الأمازيغي ـ في مختلف الحقب ـ متعة حسية ووجدانية تمتح من عمق الإحساس بالحياة الفردية والجماعية، ووفرا له معرفة كافية بذاته ومحيطه و بكل العلاقات القائمة بين الكائنات والأشياء من حوله . و لذلك كانا يتغيران و يتطوران ، عبر التاريخ، وفق تطور و تغير الشروط السوسيوثقافية و تجارب الإنسان والمجتمع الأمازيغيين. فكان لزاما في الوقت الراهن أن تطرح أسئلة متعددة حول ما أضحته "الحكاية الشعبية" بأشكالها ووظائفها، وحول تطور الشعر و خصائصه، وحول العلاقة القائمة بين هذين النمطيين التعبيريين.
فما هي الحكاية الشعبية في الثقافة الأمازيغية ؟
وما هو الشعر الأمازيغي الحديث أو الجديد ؟
وكيف استثمر هذا الشعر المتن الحكائي الشعبي ؟ وكيف تفاعل معه ؟
الحكاية الشعبية الأمازيغية
إن الحكاية الشعبية الأمازيغية لا تختلف كثيرا عن سائر الحكايات الشعبية لدى الأمم الأخرى، فهي تخضع للخطاطة الشكلية نفسها التي رسمها النقاد والدارسون لهذا الجنس في مختلف الآداب الشفهية الشعبية التقليدية في جل الثقافات الإنسانية. هذه الخطاطة النمطية والكونية التي تنطبق عناصرها و محدداتها على الحكاية الأمازيغية كما تنطبق على حكايات الشعوب الأخرى ، وتجعلها مميزة عن باقي الأجناس التي تشبهها في الإبداع السردي الشفهي كالملحمة و السيرة والأسطورة و النكتة...
ولذلك فإن أنساق الحكي و السرد في الحكاية الأمازيغية تقوم على نفس الهيكلة والتصورات العامة التي توجد في الحكي في كافة أنحاء العالم، وتتشابه معها في عدة ملامح، أجملها ذ . محمد أقضاض في ما أسماه بمواثيق الحكي، والتي حددها في المقومات التالية :
ـ الراوي والمتلقي و الوظيفة
ـ العتبات: مدخل الحكاية وقفلها
ـ بنية الحكاية
ـ التناصات الحكائية
ـ التقاطعات الحكائية
في أولى هذه المقومات تتكلف المرأة ( الجدات و الأمهات) ـ في الغالب الأعم ـ بمهمة الرواية، لاسيما للأبناء و الأحفاد، و في أوقات الليل، وتكون هذه المرأة / الراوية واثقة من معرفتها بما تحكي، وعالمة بكل الأحداث، وعارفة بكل الشخصيات و أوصافها وتصرفاتها...و تروي بلغة متميزة توظف فيها التنغيم و الغناء و التلوين الصوتي وتشخيص مقول الشخصيات.
وفي المقومات الأخرى، تمتلك الحكاية الشعبية في الأدب الشفهي الأمازيغي "خصائص فنية تميزها عن باقي الأجناس النثرية الأخرى، حيث تنفرد ببنية سردية مرنة تستجيب لمقتضيات ظروف إنجازها من قبل الراوي (.......) و الحكايات الأمازيغية كغيرها من حكايات العالم، تقوم على الخيال المبدع وتوظف القوى الخارقة و الأبطال المثاليين وتنقل في طياتها انشغالات الإنسان المادية والفلسفية والوجودية و غيرها، وتتوفر فيها مجموعة من الخصائص الكونية، حيث تستقي مواضيعها و أنساقها من الثقاة الإنسانية عامة، ثم تكيفها مع نواميسها اللغوية والجمالية و الثقافية المحلية التي تختلف باختلاف المناطق الجغرافية و الخصوصيات الاجتماعية و الثقافية لكل مجموعة ن حيث تسهم الشفهية في تعدد وتنوع متغيرات الحكاية الواحدة التي يدور موضوعها الرئيسي حول أبطال يختزلون أحيانا مختلف المكونات الضمنية للإنسان من عناصر دينية وعقائدية وثقافية وذاتية وغيرها " .
كما أن السرد والوصف في الحكاية الشعبية الأمازيغية يتميز بأن " غرض المحكي، يعتمد على بناء بسيط، ولغة مقتضبة تعتمد التكثيف و التلميح الدلالين ن و إيقاع سردي سريع، إلا أنها في تقديمها للأبطال و الشخصيات ن نادرا ما يتم ذكر أسمائها، ويكتفى بنعوتها أو ببعض سماتها المقامية أو الاجتماعية و الطبقية" ، والتي تكون مبثوثة في الوحدات السردية الصغرى على طول الحكاية.
وفي ما يخص الأنماط المعروفة في الحكاية الشعبية الأمازيغية، " ما هو سائد الآن هو الاقتصار على الحديث عن الحكاية (conte) بأنواعها الثلاثة، الحكاية العجيبة وحكايات الحيوانات و الحكاية الساخرة، رغم أن بعض الحكايات تكون أحيانا مزيجا من خصائص كل من الحكاية و الخرافة و الأسطورة" ، ورغم أن هذه الأنماط الثلاثة تجمع بينها مجموعة من القواسم المشتركة أهمها :
1. البنية الحكائية النمطية
2. الإضافة والحذف حسب ظروف الحكي وواقع المنطقة
3. المؤلف المجهول
4. خيالية الأحداث و الشخصيات
5. المغزى الأخلاقي.
ومن أهم مميزات الحكاية الشعبية الأمازيغية اشتغالها على مجالات مكانية و زمانية و " أحداثية " محدودة و مضبوطة :
1 ـ المجال المكاني: تدور الأحداث و تتحرك الشخصيات عبر السرد في مدى جغرافي ضيق، في الغالب ما يكون مجالا مألوفا و معروفا أو يسهل تصوره من قبل المتلقي، كالقرية و الجبل و الحقل والغابة..
2ــ المجال الزماني : ترجع الأحداث دوما إلى الزمن الغابر، الزمن البعيد الذي كانت تتعايش فيه المخلوقات والكائنات بطريقة مختلفة ( حيوانات تتكلم، غيلان وجنيات تتساكن مع البشر، الكواكب و النجوم تتحدث.. ) . أما الحيز الذي كانت تستغرقه، فكان يبدأ مع الشخصيات و ينتهي مع وصولها إلى الحلول، دون أي امتداد قبلي أو بعدي.
3 ـ المجال "الأحداثي" : ترتبط الأحداث بالشخصيات فقط، و لا تمتد إلى كائنات و أشياء العام الأخرى، و لا تترك آثارا أو نتائج على باقي الجوانب الحياتية خارج وجود كائنات الحكاية.
إلا انه بالرغم من هذه الحكاية الشعبية تشكل أهم مظهر في الثقافة الأمازيغية الشفهية، ورغم ما تتوفر عليه من " الكم الهائل للمتن و المادة، فإنه ما يزال يشكل موضوعا بكرا بالنسبة للمحترف النقدي و الأكاديمي معا " ، و إنه في حاجة ماسة إلى الدراسة العلمية التي من شأنها أن " تكشف يأن الموروث الثقافي لهذا الأدب هو نتاج تلاقح وتراكم تمتزج فيه ترسبات مختلفة، تغوص جذورها في أعماق التاريخ القديم و تستمد مكوناتها من تعاقب الحضارات إنسانية مختلفة، فبل أن تستقر الأساس الثقافي للمغرب على ما هو عليه الآن بتعدد وتنوع أشكاله الفنية والتعبيرية" ، و بالمكانة التي تحتلها في النسق في النسق الثقافي الوطني.
الشعر الأمازيغي الحديث
يجمع المهتمون بالأدب الأمازيغي أن التجربة الشعرية التي يصطلح عليها "بالشعر الأمازيغي الحديث" انطلقت بداياتها مع أواسط السبعينات من القرن الماضي، و ارتبطت ـ أساسا ـ بظهور أول الدواوين الشعرية المكتوبة والمنشورة، و التي شكلت الإرهاصات الأولى لعملية الانتقال الأدبي من طورالشفاهة إلى طور الكتابة .
وقد دشنت هذه التجربة الجديدة بنشر أول ديوان أمازبغي للشاعر محمد مستاوي، إسكراف ( القيود)، والذي تلته دواوين عدة لشعراء شباب و مثقفين فاعلين في حقل الثقافة الأمازيغية ، ثم اتخذت التجربة مسارا متسارعا مع مطلع العقد الأخير من القرن الماضي ،
إذ ستتواتر عملية نشر الدواوين وتنتظم الكتابة الشعرية في المجلات و الجرائد، و تبرز أسماء شعرية متميزة ، ونلوح تباشير مشروع شعري و أدبي جديد و حداثي بتصورات مغايرة وجادة.
و إذا كانت إبداعات الرعيل الأول من شعراء هذه التجربة ،" رغم ظهورها في سياق ثقافي واحد، فهي ليست تيارا متجانسا يصدر أصحابه عن وحدة في الرؤيا و التصور والتطلعات، بل هي محاولات فردية لمثقفين من مختلف المشارب الثقافية والمهنية ، ولكنها في مجموعها، تنضاف إلى التجارب النشرية الحديثة لتوجيه دفة الأدب الأمازيغي نحو مسار جديد على غرار الآداب العالمية". . وهذا ما تحقق مع الرعيل الثاني الذين استوعبوا الشروط التاريخية والثقافية التي يبدعون فيها، ودفعوا بالتجربة إلى إعادة النظر"في قيمها و مقوماتها التي ورثتها عن الممارسة الشفوية الطويلة ـ و التي لم تحاول تجاوزها إلا منذ سنين قليلة خلت ـ لأنها ارتأت أن الانتقال إلى ( الكتابة) مدخل أساسي لها نحو الحداثة وتجربة جديدة يجب استثمار ما تختزله من إمكانيات لأجل الدفع بالخلق الشعري نحو آفاق مغايرة، و لأنها أدركت أن للإبداع المكتوب اشتراطاته الخاصة التي تقتضي قيما ومعايير مميزة في التداول و الاستهلاك، و تستوجب تعاملا أخر مع عناصر الإبداع في إطار تغير ظروف الإنتاج والتلقي معا " .
و هكذا أصبح " الشعر الأمازيغي الحديث يتميز، على غرار الشعر الحديث العربي وغيره، بنوع من حرية التعامل مع هذه القوانين و القيود، حيث تلتزم القصيدة تارة بصيغة عروضية واحدة، وتارة أخرى بعدة صيغ عروضية، وأحيانا كثيرة لا تلتزم بالإيقاع والجرس اللفظي أو الصوتي، ذلك أن الشاعر يولي أهمية كبرى إلى المضامين و الأغراض والنفس الشعري وعناصر الإبلاغ الأخرى على حساب الصنعة النظمية، إذ يتوخى من خلال اللغة الشعرية المشحونة بالرموز و الدلالات إيصال إيحاءات عميقة ترتبط بقضايا إنسانية و فلسفية ربما لا يسعفه في تبليغها التقيد بأعراف النظم التقليدي"
واكتشف شعراء هذه التجربة الوسائل التعبيرية الجديدة التي يمكن أن تعمق أساليبهم وتكثف لغاتهم، فمال أغلبهم إلى استخدام الصور والرموز" بأسلوب يقوم على أساس توسيع الفارق أو المسافة بين المعنى الأصلي السطحي و المعنى الاستعاري الذي يمنح الصورة الشعرية إمكانية التداعي و الامتداد في التصور الذهني المنفلت من قبضة المباشر و الإدراك المنطقي" ، وتنبهوا أيضا إلى الصورة الشعرية " باعتبارها طاقة فاعلة في التعبير وقادرة على التأمل و الاستغراق و التحاور مع العوالم الداخلية والمحتملة للإنسان والأشياء، وباعتبارها أداة تغرر بالمبدع و القارئ لتجاوز المعنى المباشر الظاهر القائم على المنطق والموضوعية نحو المعاني الباطنة التي تستطيع أن تصف مالا يوصف" ، وان تخلق أحاسيس ومشاعر لا يمكن ضبطها وتحديدها.
وبفضل استخدام هذه الوسائل التعبيرية يطرق مختلفة عما كانت عليه في الشعر الشفهي، فإن ملامح اللغة الشعرية تبدلت و تغيرت، و أصبحت تنحو " إلى التميز عن لغة الشعر التقليدي الغنائي باقتراضها المعجمي من مختلف اللهجات، واعتمادها بشكل مكثف للتراكيب و الصور البلاغية المستحدثة وغير ذلك من الاجتهادات التي تجعل هذا الشعر يتسم بنفس خصائص الشعر الحديث في الآداب المعاصرة العالمية الأخرى، أما أغراض ومواضيع الشعر الأمازيغي الحديث، فهي كثيرة ومتنوعة بالمقارنة مع جدول أغراض الشعر التقليدي . فبالإضافة إلى ما يعالجه هذا الأخير من مواضيع، يضيف الشعر الحديث إلى جعبته جملة من الأغراض المتداولة في الآداب الكتابية الحديثة شعرها و نثرها، وذلك بحكم التكوين الثقافي للشعراء الأمازيغيين المحدثين. ومن الأغراض الجديدة الانشغالات الكونية والفلسفية و الوجودية و الإنسانية والنضالية، كالبحث عن الهوية وسير أغوار الذات التاريخية و الثقافية و الالتزام بقضايا الساعة كالسلام و حقوق الإنسان و محاربة الميز العنصري إلخ..... كما يوظف هذا الشعر الأسطورة المحلية والعالمية و التراث الأدبي والثقافي الأمازيغي و غير الأمازيغي" .
وقد جعل الشعر الأمازيغي من توظيف التراث الحكائي، المحلي منه أساسا، بابا يلج منه مجال الحداثة، ومرتكزا مميزا للتعبير القائم على الصورة التجريدية والرمزية التي تنفتح على التعدد الدلالي و التأويلي في سياق القراءة و التلقي.
وهكذا أصبح توظيف الحكاية الشعبية، وما شابهها من أجناس الأدب الشفوي، ملمحا أساسيا في تجربة الشعر الأمازيغي الحديث و مظهرا مميزا بينها و بين مختلف تجارب وتيارات الشعر الأمازيغي التقليدي.
الحكاية الشعبية في الشعر الأمازيغي الحديث
أكد الدرس النقدي الحديث، منذ الشكلانيين الروس، أن الأجناس الأدبية الجديدة و المعاصرة قد تطورت و تفرعت عن أجناس الأدب الشفهي التقليدي ،و لذلك توجد بينهما عناصر مشتركة ومتماثلة . ولذلك أيضا، ظل الأدب الجديد يحمل نزوعات قوية للرجوع إلى أصوله في التراث التقليدي و القديم للتواصل معها .
وقد شكل توجه التجارب الأدبية المعاصرة إلى محاورة التراث الفني و الأدبي القديم ملمحا مركزيا في مشروع التحديث و التجديد الأدبيين، وبخاصة في مجال الشعر الذي عاد إلى الأساطير و الحكايات و السير البطولية العريقة ليغرف منها ما شاء من الرموز و المواضيع و الصور و الأخيلة المعبرة و المثيرة. و عرفت مختلف التوجهات الشعرية عند جل الأمم ميلا شديدا نحو استثمار التراث الشعبي المحلي و الكوني، باعتبار ذلك مدخلا رئيسيا نحو عالم الحداثة والمعاصرة.
و الشعر الأمازيغي الحديث، بدوره، عمد إلى توظيف التراث الشعبي المحلي، لاسيما الحكائي بأوجه مختلفة و أساليب متباينة و لأسباب متعددة، منها ما هو "ايديولوجي" مرتبط بالسياق التاريخي و الثقافي، ومنها ما هو فني وجمالي متعلق بالرغبة في الرقي بالإبداع الشعري و الرفع من قيمته الأدبية.
أ ـ الدواعي و الأسباب
جاءت هذه التجربة الحديثة في ظروف تاريخية جد حرجة بالنسبة لحركة الثقافة الأمازيغية التي كان عليها أن تجيب على مجموعة من الأسئلة المرتبطة بإشكال الهوية، وكان عليها أن توظف في ذلك مختلف الفنون الإبداعية الأدبية و الفنية كوسائل إقناع وإثبات.
ولذلك يمكن عد هذه التجربة في الواقع أحد مكتسبات الخطاب الثقاقي الأمازيغي الذي يؤكد على "الهوية" في إطار نسق الحداثة، "إذ من المعروف أن الحركة الهوياتية الأمازيغية قد بدأت في منتصف الستينات كحركة ثقافية تروم الدفاع عن الموروث الثقافي الأمازيغي وحمايته من الاندثار، قبل أن تعرف هذه الأفكار انعطافا أصبح يتخذ صبغة سياسية أيديولوجية مطلبية تروم إقناع الدولة و النخب بضرورة الاعتراف بكون اللغة والثقافة الأمازيغيتين مكونين أساسيين للهوية الثقافية المغربية، الشيء الذي يستدعي ترجمة هذا الاعتراف مؤسساتيا من خلال الاهتمام بهما، لا فقط كتراث، بل كمناخ للإبداع ولابتكار قيم جديدة؛ وذلك بالانتقال من نسق الفنون الشعبية الأمازيغية إلى مجال الإبداع الحديث في مجال الفنون بصفة عامة.
وكان هذا الابتكار و هذا الانتقال مشروطين بالارتباط بالتراث الأمازيغي وباسترجاع قيمه التقليدية في إطار إشكالية " إبراز الهوية "، فعادت هذه الحركة الشعرية إلى العديد من مفردات التراث لتوظفها وتستثمرها، ومن أبرزها الحكاية، إذ وجدت في أحداثها وشخصياتها وفضاءاتها رموزا قادرة على أن تمد جسور التواصل بين الماضي والحاضر، كما وجد ت فيها وسيلة لاستعادة الذات المهددة بالضياع أو الذوبان .وسط توافد متراكم لقيم جديدة متعددة المشارب و المقاصد.
ومن جهة أخرى لقد وجد الشعراء الجدد أن اعتناءهم و اهتمامهم بالحكاية الشعبية في إبداعاتهم هو غوص " في ما هو حميمي، ما يربط الإنسان بكينونته الممتدة في جذور الزمن و ليس المورقة في أغصان التاريخ فقط، أي ما يدخل في نسيج النفسية الجماعية بكل تقاطعاتها الداخلية و الخارجية، لأن ألأدب الشعبي ماهو في النهاية سوى ترجمة للروح الجماعية بما يختلجها من أحزان و أفراح، وألام و آمال، و قلق وطمأنينة، وهلع وسكينة... أي في النهاية الحامل الأمثل و الرافد الأقرب بتمثلات الجماعة وفلسفتها ونظرتها للوجود بوجهيه الغيبي والحسي " ،و كانت المهمة ـ بذلك ـ هي نقل ما في هذه الحكاية من شخصيات وأحداث وقيم ومغاز من زمنيتها الماضية المفترضة و نسقها الفني إلى زمنية الحاضر، للتعبير من خلالها على هموم العصر و قضاياه.
ولقد أدرك الشعراء الشباب أيضا، أن كثيرا من الظواهر الاجتماعية والحضارية التي يقتربون منها موجودة ومبثوثة في كثير من الحكايات الشعبية التي تتوفر على إمكانيات انتقادية هامة و حمولات دلالية وجمالية معبرة ، وأن التحاور معها يساعد على توليد نصوص أدبية وشعرية غنية ومعبرة أكثر على الأبعاد الإنسانية والجمالية التي يسعون إلى إظهارها. وذلك عبر استحضار مداليل و مقومات هذه الحكايات الشعبية في إنتاجاتهم مع إكسابها أبعادا مغايرة تتواءم و روح العصر و قضاياه، و يشحنوها بما يضطرب في روح مجتمعهم وروحهم حتى تكون صادقة و معاصرة.
و لأن حركة الشعر الأمازيغي الجديد قد ارتبط بالكتابة، فقد فهم أصحاب هذه التجربة أن المرور من الشفاهية إلى الكتابة ليس مجرد استبدال قناة تواصلية بأخرى ... و إنما هي عملية معقدة تفرض استبدال الأدوات و الوسائل الفنية من أجل الانخراط في مشروع جديد يشمل جميع التجارب الإنسانية الحديثة، وتشكل هذا الفهم أو الإدراك بسبب مجوعة من العوامل أهمها :
" 1 - أغلب شعراء التجربة تابع دراسته العليا في شعب العلوم الإنسانية، أو اطلع على أهم القضايا الإبداعية من خلال الدراسات النقدية و التنظيرية.
2 - احتكاكهم المباشر بالتجارب الشعرية المعاصرة الأخرى ـ لاسيما العربية ـ في المناسبات و التظاهرات الثقافية و الوطنية.
3 - تغير وضع الثقافة الأمازيغية بظهور رغبة جماعية في النهوض بها و بمكوناتها.
4 - رهان الحركة الثقافية الأمازيغية على فنون الأدب من أجل الإجابة على الأسئلة التشكيكية التي قوبلت بها في مراحلها الأولى.
5 - ظهور تباشير نقد يهتم بمتابعة الإنتاجات الشعرية و التعريف بها و ببعض قضاياها و ظواهرها " .
ومما حفز ـ كذلك ـ الشعر الأمازيغي الجديد على استلهام الحكاية الشعبية، وتوظيفها من أجل خلق إبداع مغاير للشعر التقليدي المحلي من جهة، ومواكب لتطور الشعر الكوني من جهة أخرى :
1. الوعي التاريخي و الثقافي و الاجتماعي بالعلاقات القائمة بين الجنسين في التراث الشفهي الأمازيغي، و بالأدوار المتشابهة و المتقاربة لكليهما في مختلف مجالات الحياة الفردية و الجماعية.
2. توظيف التجربة الشعرية للحكاية بقدر ما يعبر عن التفتح و التوق إلى التجديد وإلى مجاراة التجارب الإنسانية والكونية في هذا الشأن، بقدر ما يعبر عن قربه أكثر من عوالم المجتمع المحلي و يؤكد على إبراز محليته و هويته .
3. البحث عن تأصيل إبداعات هذه التجربة ينطلق من ربط جسور التواصل والتحاور بين التراث التقليدي الشفوي وبين التجارب الإبداعية الجديدة، وبين الأنواع الأدبية الشعبية التي تتعمق في حياة الفرد و المجتمع في زمانهما ومكانهما وبين المشاريع الأدبية الجديدة.
4. التحديث الأدبي، لا سيما الشعري، ينطلق أساسا من الاشتغال على العنصر الفني و اللغوي، و العمل على تكثيفه من خلال استغلال كل الإمكانيات التي يتيحها توظيف الصورة والرمز اللتين يمكن أن تأتيا من عمق التراث الشعبي الشفوي.
و الحقيقة، إنه لا يمكن الإلمام بكل الدواعي السوسيوثقافية و الفنية لنزوع حركة الشعر الأمازيغي الجديد نحو استلهام الحكاية الشعبية لعدم انتظامها ( أي الحركة) في حساسية أو تيار له إطاراته المرجعية و النظرية الخاصة و الواضحة، ولندرة الدراسات النقدية الجادة والموضوعية في هذا الشأن.
ب ـ أشكال التوظيف و طرائقه
وقفت حركة الشعر الأمازيغي الجديد في توظيفها للحكاية الشعبية أساسا عند النماذج الحكائية الكبرى و المشهورة، كـ "خرافات" : حمو أونامير، نونجا، ثامزا، تاسليت ن ونزار، تاسليت ذ إيسلي، مغيغيذا...باعتبارها إبداعات أصيلة و عاكسة لأكثر الخصوصيات المعنوية والجمالية المعبرة عن صفاء نفسية لإنسان الأمازيغي و صدقها في التعامل مع الحياة و الطبيعة و العالم، وعن غور الإبداع الشعبي الأمازيغي و تنوعه، و عمقه وقدرته في ارتياد العوالم الخيالية البعيدة التي لم تصل إليها إلا الإعمال الإنسانية الكبرى.
واتخذ هذا التوظيف أشكالا متعددة، وتم على مستويات متباينة ، تتراوح ما بين الاجترار و إعادة الإنتاج، وبين المحاورة و إعادة الخلق و البناء قصد تشكيل قصيدة و"قصة " جديدتين، و تتأرجح ما بين الاكتفاء بالإشارة والتلميح لبعض الأسماء أوالعناصر و بين الاستلهام التام لأطوار الحكاية و أحداثها، ومنها ما أهملت الحكاية بأحداثها وشخصياتها و استخدمت بناءها في السرد وتقنياتها في تسلسل الأحداث و تناميها.
ففي إحدى القصائد يستعين الشاعر سعيد أقضاض بمقطع شعري غنائي انتزعه من السياق العام لحكاية " عشبة حضار / الفتاة و الإخوة السبعة "، ليجعل منه مطلعا و لازمة تتكرر على طول القصيدة التي اتخذت شكلا بنائيا حلزونيا . وإن كان هذا المقطع يمثل منطقة هامة في الحكاية، سواء من حيث دلالته و موقعه في بؤرة الحكاية أو من حيث الطريقة التي تؤدى أو تنشد به، فإن الشاعر اكتفى بإيرادها معزولة عن النفس العام للقصيدة و إن جعلها بارزة و فاتحة للمقاطع المتوالية :
ءعرا ءوعرا
ءا ثازروت ن بوغريبا
ءذ وارغ بابا ذ يما
وعمد الشاعر إلى استلهام حكاية أخرى في قصيدة ثانية، وهي حكاية " مغيغيذا/ ساندريلا"، وتعامل معها بطريقة مغايرة :
مغيغذا ت شوارث
ءم فسيغ إزروان
ء قم ء مطا إنو
ءرشميث س بايرمان
غارفيث ت ندوين
د تاران إسقسان
نيغ ذ جن ودجون
يسشضاح إموزارن.
يفروريدخم ءو مطا يمي شم ذرين وسان..
فقد جعل من الفتاة المسكينة و المقهورة في الحكاية رمزا للحرية و الانعتاق ، ورمزا يجسد كثيرا من الأحلام المكبوتة التي يمكن أن تترجمها تلك الصغيرة المسكينة إلى إنجازات تتحقق على المستوى الرمزي.
ويلجأ الشاعر الموساوي سعيد إلى مقطع شعري منغم آخر من حكاية " نونجا"، وهو عبارة عن حوار ( سؤال / جواب) بين البطلة الهاربة من بطش الغولة التي تطاردها و بين القمر الذي يساعدها عن معرفة المسافة الفاصلة بينهما، وهو مقطع يقع في لحظة حاسمة من تطور الوقائع و يبرز عن باقي المقاطع الأخرى بطريقة حكيه منغما و موقعا. وقد حاول الشاعر أن يدمج المقطع في نسيج القصيدة من خلال تحوير بعض الدلالات و تضمينه معان رمزية تلمح إلى الانشغالات الراهنة بمسألة الهوية و الوجود للفرد الأمازيغي :
أيور أيور
إينايي ين تواريذ
زكزوار أر أنكار
توريغ بطو – ن يبريذان
مان أبريذ غ نذفار
تواريغ ذيها تمزي
تصور أك توسار
تواريغ بويذنان
يترو إغطر أفار
أيور أيور
سيورايي خ جنا
ثمورث ذ ربحار
نان أذوات ونزار
س – تغيذين ن – وزغار
أذ إللش أجنا
س – ثسراتين ن – ونزار
س- وفار ن – وذبار
أيور أيور
أيور أيور
إنايي مين ور إنق زمان.....
ويستفيد الشاعر أحمد الزياني من الحكاية نفسها: " نونجا"، و لكن بشكل مختلف، إذ يبني قصيدته التي تحمل اسم البطلة و الحكاية نفسه ( نونجا) على حوار متوتر بين ذات الشاعر الضائعة والممزقة وبين البطلة التي تأبى إلا أن تعاتب و تلوم على ما سببه إهمال "أهلها" لها و تخليهم عنها من متاعب ومعانات :
ارحم أيسنو راجا ايا صميظ
أذ ويورغ سادو يثران ذ يمدوكار ن وبريذ
موتي أ ثيوث خ ثو زيزوت إثريذ
أذ فارغ ذصوريف ن نونجا وار ينيظ
أذ ويورغ أذ راغيغ نونجا ماني ثدجيذ
اتسر أد خافي ثار ا وين ماين تعنيذ
رامي ذايي ود ارن ماني توغا ثدجيذ
اس ارغ نونجا ماغار خافي ثوغيد
شفايي ثوذاث داغ يارزوكن وار ثيزيظ....
ويذهب الشاعر أحمد الزياني في استثماره للحكاية الشعبية إلى حد توظيفه لطريقة بنائها السردي في بعض قصائده التي تمتاز بالبعد القصصي، كقصيدتيه المشهورتين " علال" و"ارقية"، حيث اعتمد في كل منهما على تنسيق " أحداث القصة / القصيدة" على توالي وحدات سردية قصيرة في اتجاه عمودي متواصل ، فقد توجه إلى خلق " قصته الخاصة" وفق منطق الحكاية الشعبية معتمدا في ذلك على صياغة الأجواء و الشخصيات و الوقائع كما تصاغ في الحكاية الشعبية البسيطة : السفر، الوحشة، اجتياز الاختبارات، الفواعل المعاكسة، الحوارات..... ففي قصيدة " ارقية " يستهل الشاعر سرده الشعري بقوله:
دعا اكيذي أيما عيذ أكيذي عيذ
نش يروحن رخاريج س ـ وقراب يخيظ
رعوين ينو ذايس ذ ـ أسمبظ ربدا يسمظ
روحخ تندرييغ وار روحغ موقيد
زك ـ مشان غار ومشان أبريد زايي ينظ
وهكذا تبدأ القصيدة بأجواء الهجرة إلى عالم أوروبا المجهول، و بأجواء الأحاسيس المفعمة بالضياع و الحنين والخوف، قبل أن تلج إلى عوالم أخرى من الصراعات الطريفة المتوالية على غرار توالي " الاختبارات" التي يمر بها أبطال الحكاية الشعبية، فيجتاز بطل القصيدة مجموعة من التجارب المريرة، تتعاقب عليه واحدة تلو الأخرى :
- تهويل الناس لوضعه بسبب هجرته غير الغير شرعية.
- قرار الزواج من ابنة بلده للحصول على وضعية مستقرة
- أب الفتاة يحاول إعاقة هذا الزواج بسبب شروطه التعجيزية
- الفتاة تستغل وضع البطل المهزوز وتبتزه ابتزازا فظا
- يتزوج من عجوز اوروبية
- تكتشف العجوز أمره
وتنتهي سيرة البطل بالشعور المر بظلم الزمان :
أذ ـ ز رزغ زمان يوك أذ ـ أي يحيذ
وحرغ ما أذ ز رزغ أخمي ي ـخافي يخيظ
خاتمة
إن استحضار القصيدة الأمازيغية المعاصرة للحكاية الشعبية يعني استحضار بعض الرموز المشرقة و الماجدة في التراث الأمازيغي، و تعبير عن الانشغال المستمر بموضوعات الهوية و الوجود من خلال معادلات فنية و جمالية تقيها من السقوط في المعالجة السطحية و المباشرة . كما تعني أيضا ظهور وعي فني جديد لدى الشعراء الشباب الذين يسعون إلى تحديث الشعر الأمازيغي من خلال استلهام الأدوات والطرائق الفنية في التعبير الخلق الشعري من التجارب الأدبية و الشعرية الإنسانية.
و يعد توظيف الحكاية الشعبية في الشعر الأمازيغي، للتعبير من خلالها عن المواقف و الأحاسيس و التيمات، أحد المعايير الأساسية التي تميز القصيدة الجديدة عن مثيلتها التقليدية في التراث الأمازيغي، إذ لم يكن الشاعر التقليدي يلجأ إلى الحكاية ليقتبس منها رموزه وليتخذ من شخصياتها و أحداثها أقنعة يتحدث من خلالها أو ليستخدم تقنياتها في بناء قصيدته، رغم أنه كثيرا ما كان يلجأ إلى جميل الاستعارات وفريد المجازات....
ولا يقتصر استحضار الحكاية الشعبية في الأدب الأمازيغي الجديد على الشعر، بل إن أجناسا إبداعية أخرى اشتغلت على الحكاية الشعبية لأسباب مختلفة و بأشكال مغايرة، لاسيما الأجناس السردية الجديدة التي ارتبط ظهورها بالانتقال إلى مرحلة الكتابة وبها وسم التجديد في الأدب الأمازيغي كفني القصة و الرواية.
المصادر و المراجع
1 - أحمد أبو حسن (2001)، " الأدب الشعبي والرواية المغربية "، مجلة " المناهل"، المغرب، السنة25، عدد 64/65 .
2 - أحمد بوكوس ( 2003)، الأمازيغية و السياسة اللغوية والثقافية بالمغرب، منشورات مركزطارق بن زياد للأبحاث و الدراسات، الرباط، ط1.
3 - أحمد الزياني ( 1993)، أذ ـ اريغ ك زرو، هولنده، منشورات إزوران، ط1.
4- بلقاسم الجطاري و عبد الرزاق العمري ( 2008)، الأدب الأمازيغي بالريف، من الشفاهية إلى الكتابة ومأزق الترجمة" ،وجدة، مطبعة الشرق، ط 1.
5 - الحسين المجاهد (1992)، "الأدب الأمازيغي بالمغرب "، كتاب مشترك " تاسكلا ن تمازيغيت، مدخل الأدب الأمازيغي"، أعمال الملتقى الأول للأدب الأمازيغي بالدار البيضاء 17 و 18 ماي 1991، الرباط، منشورات الجمعية المغربية للبحث للتبادل الثقافي، مطبعة المعارف الجديدة.
6 - محمد أقضاض (2007)، شعرية السرد الأمازيغي، الرباط، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، سلسلة الدراسات و الأبحاث رقم 5، مطبعة المعارف الجديدة.
7 - محمد حجو( 2001)، " الحكي الشعبي حقيقة الناس"، مجلة " المناهل"، المغرب، السنة25، عدد 64/65، ص 210و211 .
8 - مسعود بوحسين،" المسرح الأمازيغي وسؤال الهوية "، مقال ألقاه بمناسبة اليوم الوطني للمسرح، بالمعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، 16 ماي 2008.
9 - سعيد أقضاض ( 2004)، ثيقت، منشورات المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، الرباط، مطبة المعارف الجديدة، ط1 .
10 – سعيد المساوي (1994)، ئسفوفيد أوعقا، ط1
11 - فؤاد ازرول (2006)، " الصورة و الرمز في الشعر الأمازيغي المكتوب "، مجلة " آفاق "، المغرب، عدد 72، نوفمبر 2006.