تُعد ظاهرة التعدد اللغوي في اليمن أمراً مميزاً وفريداً له امتدادات تاريخية عريقة، فقد انفردت كل دولة من الدول اليمنية المتعاقبة عبر التاريخ بلغتها الخاصة، وحافظ اليمن على العديد من مظاهر هذا الإرث اللغوي الذي لا يزال حاضراً على شكل عدد هائل من اللهجات التي يعدها بعض الباحثين امتداداً للغات اليمنية القديمة، مثل السبئية والمعينية والقتبانية والحضرمية والأوسانية والتي تنسب كلها إلى أسماء دول أقيمت في اليمن في فترات مختلفة من التاريخ القديم.
ورغم التقارب الكبير بين اللهجات اليمنية في الوقت الراهن والتي تعد بالعشرات وتميز كل محافظة عن الأخرى، فإن اليمن لا يزال يحتفظ بعدد من اللغات المختلفة التي لا يجيدها إلا سكان بعض المحافظات ويستخدمونها للتخاطب في ما بينهم إلى جانب تحدثهم العربية الدارجة، كما هي الحال مع اللغة المهرية التي يتحدث بها سكان محافظة المهرة أقصى شرق اليمن واللغة السقطرية التي يتحدث بها سكان أرخبيل سقطرى في المحيط الهندي، إضافة إلى اللغة العبرانية القديمة التي ما زال يحافظ على قواعدها القديمة من تبقى من يهود اليمن، وعلى وجه الخصوص أثناء إقامة طقوسهم الدينية.
ويعتبر بعض الباحثين أن هذه اللغات المتبقية في اليمن والتي تتميز بطابعها العربي من حيث مخارج الحروف ومن خلال استخدامها من جانب قبائل عربية هي لغات سامية في الأصل، وربما تنتمي بشكل أو آخر إلى فترات التجريب والتكوين اللغوي الذي حرص اليمنيون القدماء على تطويره وابتكروا له خطاً وحروفاً خاصة به تسمّى «المسند» الذي أصبح بعد ذلك الخط المكتوب لكل سكان الجزيرة العربية، والذي كان يكتب من اليمين إلى اليسار أو العكس.
ويعـــتز السقــــطريون والمـــهريون في اليمن بلغتيهم، إلا أنهم يرفضـــون أي حديث عن انتـــماءئهم إلى جـــذور افريقية غير عربية، معتبرين أن لغتــــيهم هــما من لغات اليمن الــقديمة التي تــحافـــظ على طابعها.
ويقول الباحث المهتم باللغات اليمنية القديمة زيد الفقيه لـ «الحياة» إن عربية جنوب شبه الجزيرة العربية التي سمّيت «عربية حِمْير» واللغة العربية المستخدمة اليوم لغة واحدة تطوّرت عبر سنوات متعددة. ويضيف أن الحرف العربي الذي يكتب به اليوم أصله «حِمْيري»، لافتاً إلى أنه قد حدث تغيير مرحلي في شكل الحرف كما هي الحال في بعض الحروف، مثل الباء في الأصل الحميري الذي قلب فأصبح (ب) الحالية، وفي السين حصل قلب إلى الأعلى مع إضافة تجويف فأصبح (س). وهكذا حصل تغيير طفيف في أشكال الحروف في الأصل الحميري ليصبح الحرف كما هو عليه اليوم في ما نطلق عليها العربية الفصحى.
وعن اللغات اليمنية القديمة وعلاقتها باللغات التي لا تزال مستخدمة حتى اليوم في بعض مناطق اليمن مثل اللغتين المهرية والسقطرية، يوضح الفقيه أنه لم يتوصل في أبحاثه إلى نتيجة قاطعة بوجود تطابق بينهما، لكن الأرجح أن أصلهما واحد لأن المهرية والسقطرية تقتربان من لغة الساحل الأفريقي. غير أنه يؤكد في السياق ذاته أن اللهجات اليمانية المتداولة اليوم تتحدر من الأصل الحِميري، خصوصاً في المناطق الوسطى من اليمن حيث تركزت الدولة الحِميرية، مستدلاً على ذلك بكثير من المفردات في اللغة اليمنية القديمة التي لا تزال متداولة حتى اليوم.
وتنشط حركة دؤوبة في سقطرى والمهرة اليمنيتين يقودها باحثون وكتّاب للحفاظ على لغاتهم من الاندثار خصوصاً أنها غير مكتوبة. ولهذا الغرض أطلقت مبادرة بعنوان «التوثيق والتحليل العرقي واللغوي للغات العربية الجنوبية الحديثة» من جانب منظمة دولية تهدف إلى ابتكار كتابة معدلة من الأبجدية العربية لبعض لغات جنوب الجزيرة العربية، ومن بينها السقطرية والمهرية اللتان تأتيان ضمن مجموعة مكونة من ست لغات تُدعى اللغات العربية الجنوبية الحديثة (MSAL). واللغات الأربع الأخرى هي البطحرية والهيبوتية والحرسوسية والشحرية، وهي لغات سامية تتحدث بها أقليات سكانية في جنوب اليمن وشرقه وغرب عمان والأطراف الجنوبية من المملكة العربية السعودية، وتنتمي إلى فرع اللغات السامية الجنوبية في عائلة اللغات السامية التي تضم أيضاً الأثيوبية واللغات العربية الجنوبية القديمة. وهذه كلها تتفرع من اللغات السامية الوسطى التي تضم العربية الحالية واللغتين الآرامية والعبرية.
ويتحدث باحثون يمنيون وعرب عن تشابه هائل بين السقطرية والمهرية في اليمن وبين لغات أخرى لا تزال مستخدَمة في مناطق عربية أخرى مثل اللغة الأمازيغية التي يؤكد المستشرق الألماني أوتو روسلر ارتباطها باللغات السامية في جنوب الجزيرة العربية، ويقول في كتابه «النوميديون أصلهم كتابتهم ولغتهم»: «إن اللغة النوميدية - و يقصد بها اللغة الأمازيغية - لغة سامية انفصلت عن اللغات السامية في المشرق في مرحلة مغرقة في القدم» .
ويقول باحثون إن أكثر من مئة كلمة رُصدت لا يستخدمها إلا اليمنيون والأمازيغ.
يشار إلى أن الاهتمام بدراسة اللغات اليمنية القديمة بدأ مبكراً، وكانت البعثة العلمية الاستكشافية النمسوية التي زارت سقطرى أواخر القرن التاسع عشر أول من وضع كتابات جادة حول اللغة السقطرية.