دمشق- مائة عام من التراث الغنائي والموسيقي السينمائي العربي القديم، يحتضنها بحب وإخلاص وحرص كبير، صاحب المكتبة الذهبية للموسيقى العربية محمد المصري (أبو فريد).
ما جمعه أبو فريد، وما كرّس حياته الممتدة له، يشكل ومنذ نعومة أظفاره وحتى يومنا هذا، أرشيفا نادرا يجتهد المصري (64 عاماً) فيه، بأذن موسيقية مرهفة، وحس فني عميق، بجمع مختلف ما يتعلق بالرواد العرب الأوائل موسيقياً وسينمائياً وإذاعياً.
وعندما لم يكن يتجاوز العاشرة من عمره زار أول مرة في العام 1955 محل نور صناديقي، الذي كان مشهوراً آنذاك ببيع الاسطوانات الموسيقية القديمة.
أبو فريد وفي حوار مع "الغد"، يؤكد أن الزيارة الأولى لم تكن الأخيرة بل كانت فاتحة مشوار يومي، "ألج فيه بعد الانتهاء من دوام المدرسة -محل الصناديقي- لأستمتع بأصوات أسمهان وأم كلثوم وفريد الأطرش، التي أصبحت جزءاً من وجودي واستمراري في الحياة".
وبفرح يملأ عينيه اللتين أجهدهما التعب في الحفاظ على التاريخ الفني، يتابع المصري قائلاً "ورغم توبيخ صاحب المحل المستمر لي، وعقوبات والدي لتأخري عن العودة إلى المنزل كل يوم، إلا أني بقيت وفياً لأصوات عاشت معي عمري كله، وأعطيتها حياتي، وحفظتها ووثقتها وأسعى لتقديمها للأجيال اللاحقة".
ويتذكر أبو فريد بفخر "كنت أدخر مصروفي وأقوم بتخبئته في بيت خالتي لأحمله نهاية الأسبوع إلى بائع الاسطوانات "صناديقي"؛ لشراء مجموعة اسطوانات لفنانين قدماء يغنون الطرب الأصيل".
الاسطوانات التي واصل الاحتفاظ بها في بيت خالته كانت، بحسب المصري، من نوع (كايرفون- بايبافون- جارامافون- بايلا فون).
إصراره على الاحتفاظ بها، وتخبئتها بعيداً عن مخاوف الضياع أو التوزيع أو العطب، اضطر والده إلى شراء صندوق سماعي (حاكي)، ورغم تجاوز عمر هذا الصندوق 90 عاماً فإنه ما يزال يعمل وبحالة فنية جيدة.
"طلب والدي أن أجلب الاسطوانات التي اشتريتها حتى نسمعها، فانطلقت الألحان والأغاني لمطربين أمثال (يوسف المنهلاوي- محمود الصبح- حسين الدرويش- سيد الصفطي- الشيخ أمين حسنين- زكريا محمد- رياض السنباطي- فريد الأطرش- عبدالوهاب- أم كلثوم- أسمهان- كارم محمود)، وكل الفنانين منذ العام 1910"، يواصل أبو فريد تذكر زمنه الجميل.
أهالي الحي جميعهم كانوا يقصدون منزل عائلته، كما يورد، ليستمتعوا بالطرب الأصيل، مبدين إعجابهم الشديد، وهو ما حثه على متابعة مشروعه، بعد ما لاقاه من احترام عائلته وتشجيع الجيران والأقارب له.
محمد المصري الذي أمضى حياته في جمع أغاني عمالقة الطرب، وألحان كبار الملحنين في الوطن العربي، أحب فناني ذلك الزمان جميعهم، إلا أن حبه الأكبر كان لفريد الأطرش الأهم برأيه والأبرز من بينهم. بل هو كما يبوح، كان صاحب فضل إنشاء أبو فريد مكتبته الموسيقية، التي تضم مختلف ما يتعلق بتراث الموسيقار الراحل فريد الأطرش وشقيقته أسمهان، ومن ضمنها أغان نادرة "بدءاً من أول اسطوانة لأغانيه وألحانه العام 1934، ولغاية وفاته 26/12/1974 في مستشفى الحايك في سن الفيل في لبنان، يوم الخميس الساعة الخامسة والنصف مساءً".
بالإضافة إلى احتفاظه بتسجيلات بصوت علياء المنذر والدة فريد وأسمهان الأطرش، التي يعود لها الفضل حسب أبو فريد "في رعاية موهبتهما".
ويبرر أبو فريد سبب علاقة الحب المميزة لفريد الأطرش بقوله "إنه ملك العود في الوطن العربي"، حتى إنه أطلق اسمه على ابنه البكر، وعشق أغنياته الحزينة والوطنية والدينية، وقد تردد على مكان إقامته في السويداء مرات عديدة بغرض الزيارة، واجتمع به عدة مرات. ويذكر أبو فريد أن بحوزته كرت دعوة لحضور حفلة لفريد الأطرش غنّى فيها أغنية "أول همسة" أقيمت العام 1972 في ملعب العباسيين في دمشق.
ويختصر بكلمات عاشق أضناه الحب وأتعبه الهيام "فريد الأطرش أكبر من أن يعرف بكلمات قليلة؛ فهو مدرسة غنائية وغنية بالروائع الفنية يتربع على عرش الفن الشرقي من دون منافس".
وفيما يتعلق بكوكب الشرق أم كلثوم يقول الباحث الفني أبو فريد "إنها بحر ليس له نهاية" ولديه لها آلاف التسجيلات الوطنية والدينية التي يصفها على ندرتها ووفرتها "دلو من بحر فنها وما يزال يوجد لها فن لا ولن ينضب؛ إذ إنها موهبة إلهية لن يكررها التاريخ".
أبو فريد الوحيد، في الوطن العربي والعالم، كما يؤكد، الذي يملك المعجم المفهرس لأغاني كوكب الشرق "أم كلثوم"، وكان نتيجة جهد أربعة أعوام، ويعمل الآن على طباعته في مجلد كامل يحفظه ويحميه من الضياع.
يتابع أبو فريد اهتمامه الكبير في تقديم أي مساعدة فنية وسينمائية لكل من يطلبها في وسائل الإعلام، لافتا إلى تردد العديد من الفنانين وشعراء الأغاني الذين يعملون في الفن الأصيل عليه حتى هذه اللحظة.
وفيما يتعلق بمكتبته التي تغطي جدرانها صُوَر أصحاب زمن الفن الجميل يشير إلى أنه قام باستئجار هذا المكان الصغير منذ ما يقارب 45 عاما، وكل ما فيه ما هو إلا جزء من مجموعة كبيرة موجودة في منزله، وتحتوي موسوعته من التسجيلات أكثر من نصف مليون تسجيل منوع من الطرب الأصيل.
وعن بعض أوجه تقدير منجزه يقول "كرَّمتني وزارة الإعلام والهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، وحصلت على شهادات تقدير وثناءات ودرع من برنامج "ابن البلد"، إضافة إلى شهادات تقدير وتكريم من عدة دول عربية وأجنبية، وهذا التكريم يعطيني دافعا كبيرا للتقدم ومتابعة ما بدأته منذ خمسين عاما".
وفيما يتعلق بكيفية احتفاظه بهذا الإرث الفني العريق، يقوم المصري بعد انتشار الأفلام الغنائية بشراء مسجلات (البكرات) لنقل الأغاني عليها؛ حيث تضخمت أعداد البكرات في مكتبة أبو فريد، ثم انتشرت الكاسيتات لتنتقل الأغاني من البكرات إلى شرائط الكاسيت؛ إذ جمعها كلها في موسوعة بلغ عددها نصف مليون تسجيل بداية من العام 1910 ولغاية العام 1985، وهو ما يعتبره زمن الفن الجميل، الذي توقف بعده نهائياً عن متابعة المشوار الفني والسينما، مع نهاية جيل العمالقة في الوطن العربي.
أبو فريد يستنكر الأصوات الفنية في الوقت الراهن بقوله "لم يعد التاريخ الفني هدفا؛ حيث أصبحت المادة هي الغاية الأساسية من الغناء في هذه الأيام".
ويرجع أبو فريد السبب في امتناعه عن التعامل مع الأغنية الحديثة لأنها صاخبة وتسبّب "الصرع، كما أنها تفتقد للحسّ الفني"، وهي لا تتلاءم مع الجو الذي عاشه أيام عمالقة الغناء العربي؛ أولئك الذين وصفهم بقوله "ماتوا فقراء ولا يملكون شيئاً؛ لأنهم عملوا للفن وأحبوه".
ولأنه مدمن على الفن والغناء الأصيل يؤكد الباحث الفني أبو فريد أنه ما يزال يبحث ويغوص في بحر الأصالة والتراث الفني، ويسافر إلى أي مكان للحصول على معلومة أو أغنية أو لحن قديم، واستطاع حتى الآن أن يجمع ثروة فنية قديمة لا تقدر بثمن.
وعن الدافع الذي جعل أبو فريد يعمل على جمع هذا التراث الفني يقول "لقد قمت بهذا العمل بدافع عشقي للفن ولكل الفنانين، الذين أثروا المكتبة الموسيقية بالأغنيات العربية الأصيلة".
ويلفت أبو فريد إلى أنه ومنذ بدايته في هذا العمل الفني العريق لم يطرأ أي تغيير على حالته المادية، فهو لا يملك من مال الدنيا شيئا؛ حيث ما يزال يمتطي الدراجة الهوائية كوسيلة للنقل، لكنه يصف التراث الفني بأنه "قطعة من جسده" يعوضه عن أي شي آخر.
وحتى لا تموت مهنة الأرشفة، ويموت معها التاريخ الطويل لما جمعه أبو فريد، يقوم الآن بمحاولة غرس كل ما وثقه في ضمير ولده الصغير الذي يهوى الفن القديم أيضاً، لنقلها إلى أبنائه من بعده.
ويحضّر أبو فريد خلال الشهر المقبل من هذا العام، لأكبر معرض في العالم للموسيقار فريد الأطرش والصوت الخالد أسمهان، يقام في محافظة السويداء السورية لأنها مكان ولادتهما.
إرث فني أصيل في مكتبة أبو فريد
من موجودات مكتبة أبو فريد الفنية: لائحة بالموجودات الفنية التي يضمّها في متحفه للتراث الفني والأغنية العربية الأصيلة، تسجيلات أغان من التراث القديم للمطربين والمطربات منذ العام 1910 وما بعده، تقدَّر بنصف مليون تسجيل من سورية ومصر ولبنان، اسطوانات التراث الغنائي منذ العام 1910 وما بعده، أغان مسجلة على أشرطة بكرات من التراث الغنائي القديم، أفلام عربية غنائية قديمة مسجلة على أشرطة فيديو منذ العام 1940 وما بعده، مجلات فنية وسينمائية قديمة من مصر وسورية ولبنان، حياة الفنانين والفنانات وأعمالهم الفنية من سورية ومصر ولبنان، تسجيلات على القانون والعود والناي والكمان والطبلة لكبار العازفين من سورية ومصر ولبنان، تسجيلات التراث الغنائي القديم بصوت جماعي لعدد من الفرق من سورية ومصر ولبنان، فونوغراف (صندوق سمع) من العام 1920، وثائق سينمائية تعرض لأول مرة في الوطن العربي سيتمّ الإفراج عنها لتعرض في المعرض القادم. أفيشات أفلام السينما العربية منذ العام 1935 وما بعده، بروشورات أفلام السينما العربية منذ العام 1935 وما بعده، كتيبات صغيرة لأغاني الإذاعة وأغاني الأفلام السينمائية منذ العام 1930 وما بعده، صور أفلام السينما العربية منذ العام 1935 وما بعده، صور المطربين والمطربات من سورية ومصر ولبنان منذ العام 1910 وما بعد، معلومات عن آلات التخت الشرقي من عود كمان وناي وقانون وطبلة، وحياة كبار عازفي التخت الشرقي من سورية ومصر ولبنان. حياة الملحنين وأعمالهم الفنية من سورية ومصر ولبنان، مجموعة أغاني الأفلام العربية الغنائية للمطربين والمطربات، نشرة المناهج السورية منذ العام 1947 ومجلات الإذاعة السورية والإذاعات العربية 1950. موسوعات سينمائية مع قصة كل فيلم، وعدد هذه الأفلام 5 آلاف فيلم، ومعلومات كافية عن كلّ فيلم من هذه الأفلام، أسماء مراقبي الأفلام أيام زمان والرخص التي يحملونها للعروض وسعرها. المعجم المفهرس الوحيد في الوطن العربي والعالم لأغاني كوكب الشرق أم كلثوم.