*الجزء الثاني*
(ماذا قد يحدث باليوم الأول لها؟)
ابتسمت وعد بشرود وهي تلمح الساعة التي كانت تشير عقاربها الى السابعة والنصف صباحا..اليوم هو اليوم الاول لها في عملها في جريدة الشرق.. ترى كيف سيكون هذا اليوم بالنسبة لها.. وأي انطباع ستأخذ عن مكان عملها..
يقولون ان الانطباع الأول هو أهم من أي انطباع قد يأخذه الشخص في أيام قادمة.. لأن الانطباع الاول يبقى في ذاكرة الشخص.. وبه يحدد إن كان هذا المكان جيدا ام لا..
كانت وعد في شدة أناقتها هذا اليوم..كانت تبدوا كالملاك وهي ترتدي ذلك البنطال الأبيض..وقميص ذا لون وردي هادئ.. يعلوه سترة بيضاء من النوع القصير.. وشعرها الكستنائي مرفوع بأكمله بربطة شعر وردية اللون.. إلا من خصلات تسقط على جبينها ووجنتيها بنعومة..
التقطت حقيبتها وهي تشعر بالتوتر ترى ما الذي ينتظرها هناك..اخذت نفساً عميقا لتشعر بالقليل من الراحة.. ورسمت ابتسامة على شفتيها وان لم يغب عنها التوتر..هبطت الى الطابق الأسفل وقالت بهدوء وهي تتوجه الى المطبخ حيث والدتها: أمي أنا ذاهبة الآن..
سألتها والدتها قائلة: هل تناولت افطارك؟
أومأت وعد برأسها وقالت: عن اذنك الآن يا أمي..فيتوجب أن اكون في الصحيفة بعد نصف ساعة..
قالت والدتها بابتسامة: صحبتك السلامة يا بنيتي..
ابتسمت وعد وهي تغادر المكان الى خارج المنزل..وتتوجه نحو سيارتها الحمراء..ولكن انعكاس في مرآة السيارة الجانبية جعلها تلتفت وتقول مبتسمة: هشام.. ماذا تفعل هنا منذ الصباح؟..
خفق قلب هشام.. وعد اليوم تبدوا جميلة.. وجميلة جدا ايضا.. انه يخشى عليها ان تذهب الى هناك وهي هكذا..لم ترتدي مثل هذه الملابس التي تزيد من جمالها وهي ذاهبة الى العمل؟..أكان ذلك متعمدا؟.. ام انها...
وقطع أفكاره وهو يقول متجاهلا سؤالها: ما هذا الذي ترتدينه؟
قالت بسخرية: بنطال وقميص ان لم تكن ترى..
صمت عنها لأنه ليس له سلطة في التحكم بها ولكنه مع هذا ابن عمها ولا يريدها أن تكون موضع لكل عين هناك..وقال في شيء من الحنق: عودي الى الداخل واستبدلي ملابسك..
ضحكت وقالت: في أحلامك..لقد بقيت ساعة كاملة وأنا اختار ملابسي..
قال وهو يبتسم بالرغم منه: انتبهي لنفسك.. واخبريني بما يحدث معك هناك..
قالت وهي تلوح بكفها: إن وجدت الوقت الكافي.. مع السلامة..
قال في سرعة: الا ترغبين ان أوصلك؟
- لدي سيارة ان لم تعد ترى هذا ايضا..
دلفت الى السيارة وانطلقت بها.. وعينا هشام اللتان تراقبها..وتتطلع اليها بابتعادها.. كانت تحمل حنان العالم كله..
* * * * * * * *
وصل عماد الى عمله في شركة والده قبيل وقت العمل بربع ساعة..وما ان فعل حتى رن هاتفه المحمول بغتة.. فتطلع الى الرقم قبل أن يجيبه قائلا: أجل يا أمي.. ما الامر؟
استمع الى والدته التي كانت تتحدث في موضوع ما جعله يشعر بالضيق ويضطر لأن ينهي المكالمة قائلا: حسنا .. حسنا .. سأرى الأمر عندما أعود.. أنا منشغل اليوم.. الى اللقاء..
اغلق الهاتف وهو يزفر بحدة .. لم هم يهتمون هكذا الى هذا الامر.. ان تزوج او لم بتزوج.. ان ظل عازبا ام لا.. هل تعدى سن الأربعين حتى يحدث كل هذا.. فليتركوه وشأنه..
والدته كانت تتحدث اليه عن احدى الفتيات التي تنوي أن تخطبها له..عن طريق احدى صديقاتها.. وهو لن يقبل بفتاة مادام لم يشعر نحوها بأية مشاعر.. لا يريد الزواج هكذا دون ان يكون له حتى العلم بشخصية هذه الفتاة..
انه يعترف بأنه معجب بوعد.. إعجاب بشخصها ليس الا..ولكنه لم يصل الى مرحلة ان يكون ما يحمله لها عبارة عن مشاعر قوية لا تنفصم..لكن لو كانت وعد توافق عليه كزوج.. هو سيقبل بالزواج بها.. لأنه يحمل لها الإعجاب.. ومع الوقت قد تتولد المشاعر بينهما..
كان هذا ما يشغل ذهن عماد وهو مستغرق بعمله..
ترى ما الذي يخبأه لك القدر يا عماد؟..
* * * * * *
ما ان وصلت وعد إلى مبنى الصحيفة.. حتى زاد توترها أضعافا..وخصوصا عندما وطأت قدماها ارض ذلك المبنى..وتطلعت الى المكان في شيء من الشرود.. هذا هو الطابق الأرضي ويحمل مكتب الاستقبال..ومقاعد للانتظار ودورات مياه..
توجهت بخطاً ثابتة الى مكتب الاستقبال وسألت الموظف قائلة: من فضلك يا سيد.. في أي طابق توجد مكاتب الموظفين ؟
اجابها قائلا:بالطابق الثاني والثالث..اي قسم ترغبين بالذهاب اليه يا آنسة..
تحدثت وعد الى نفسها قائلة( وما أدراني انا..بأي قسم سأباشر عملي)
وأجا بته بارتباك: أظن انه قسم شؤون الموظفين..
كانت وعد تدرك ان هذا القسم مختص بتوظيف الايدي العاملة..ولهذا قد تعلم من هناك بمكان عملها..
وهنا اجابها الموظف قائلا: الطابق الثاني اذا..
شكرته وتوجهت نحو ركن المصاعد.. حيث استقلت واحدا الى الطابق الثاني وما ان وصل المصعد وخرجت منه الى الطابق حتى اصطدمت بها سيدة كانت تنوي الدخول الى المصعد وهي تحمل مجموعة من الاوراق.. وقالت تلك السيدة بلا مبالاة: معذرة..
واصلت السيدة طريقها الى داخل المصعد في حين استغربت وعد هذه الفوضى الحادثة بالطابق الثاني على عكس الطابق الأرضي الذي كان يتسم بالهدوء..شخص يدخل هنا ليخرج آخر من هناك.. وآخر يرسل أوراق الى مكتب.. ليحمل غيرها الى مكتب آخر..يبدوا ان هذا المكان سلسلة اعمال لا تنتهي.. ترى هل سأستطيع أن اندمج مع كل هذا..
سارت في طريقها بهدوء باحثة عن قسم شؤون الموظفين..وهي تدلف في احد الممرات لتتجه يمينا ومن ثم تبحث من جديد.. وأخيرا وجدته.. دلفت الى الداخل وسألت اول من وقعت عليه عيناها: من فضلك يا سيد..انا موظفة جديدة هنا.. اريد أن اعرف في أي قسم سأعمل..
التفت اليها وتتطلع اليها للحظة قبل ان يقول: بطاقتك الشخصية وقرار تعيينك هنا من فضلك..
سلمته ما يريد فبحث في سجلات الموظفين الجدد في سرعة قبل ان يقول: قسم الصفحة الرئيسية..
ارتسمت ابتسامة على شفتيها.. ستكتب بالصفحة الاولى.. يا لي من محظوظة.. وقالت : شكرا لك..
اسرع يقول: ستجدينه بعد مكتبين من هنا..
أومأت برأسها وهي تبتعد عنه.. تطلعت الى المكاتب من حولها الى ان شاهدت القسم الذي تحدث عنه ذلك الموظف.. دلفت الى الداخل وشاهدت ثلاث مكاتب فقط.. مكتب تجلس عليه سيدة تبدوا في الثلاثين من العمر.. وآخر يجلس عليه شاب منهمك في عمله حتى انها لا تستطيع ان تلمح وجهه.. وآخر مكتب كان خاليا .. وان توجد عليه بعض الملفات والأوراق المبعثرة توحي بأنه لأحدهم..
عقدت حاجبيها.. إذا أين اجلس أنا؟.. توجهت نحو السيدة لتستفسر منها الأمر قائلة: من فضلك .. انا موظفة جديدة هنا واريد ان أسألك بشأن....
قاطعتها المرأة قائلة: لا شأن لي..اسألي الاستاذ (طارق)..
مطت وعد شفتيها وتوجهت الى ذلك الشاب الذي لم يرفع عينيه حتى ليرى من القادم وقالت وهي تلتقط نفسا عميقا: من فضلك يا سيد.. لقد وظفت حديثا في هذا القسم وأريد أن أسأل اين هو المكتب الذي سأجلس عليه حتى أباشر عملي منه..
رفع رأسه عن مجموعة من الأوراق كان منهمكا بالعمل عليها.. وقال ببرود وهو يلتفت لها: وما شأني أنا..
توتر شديد أصاب وعد وهي تتطلع إلى هذا الشاب.. شعرت بجفاف حلقها واضطراب في أنفاسها ..ترى ما الذي حدث لي..
طارق
أكل هذا لأنه وسيم.. لا.. أقل ما يمكن أن يقال عنه هو أنه وسيم.. انه شديد الوسامة.. وخصوصا مع عينيه العسليتين اللتان تحملان برودا لم أرى مثيلا له..وشعره البني القاتم الذي يميل الى السواد..وملامحه الرجولية التي تشعر أي شخص يراه.. بحزمه وصرامته..
انتشلت نفسها من أفكارها ووجدت نفسها تقول بتوتر: ماذا تعني يا سيد؟.. اين أجلس أنا اذا؟..
عاد ليلتفت عنها ويقول: اسألي من قام بتوظيفك هنا..
عقدت حاجبيها وهي تتطلع إليه.. أيمزح.. ام انه لا يُحمل نفسه عناء الاهتمام بأحد هنا..مغرور..كان هذا هو انطباع وعد الأول عن طارق هذا..
لم تعلم ما تفعله.. وهي واقفة مكانها غير عالمة الى أي مكان تذهب..وتطلعت الى المكتب الذي يجاور مكتب طارق والذي كان خاليا وقالت متحدثة الى طارق ببرود: حسنا.. هل يمكنني الجلوس على ذاك المكتب ريثما أجد حلا لهذا..
لم يجبها..ولم يهتم حتى بالإجابة.. فمطت شفتيها في حنق...اي شاب هو هذا.. أكثر برودا من الجليد نفسه..كيف يحتمله الموظفون هنا..
اتجهت لتجلس على المكتب الخالٍ..أي يوم هو هذا.. لقد كنت سعيدة بالأمس على توظيفي في هذا المكان.. والآن أتمنى لو وظفت في أي مكان غير هذا.. انهم حتى لا يأبهون بأمر أي موظف جديد هنا..
شعرت بالملل وهي تتطلع الى ساعة معصمها بين حين وآخر.. ترى إلى متى سأظل جالسة هكذا.. ترقب الداخل والخارج..وتتطلع الى الجميع وهم يعملون ما عداها هي التي جالسة دون عمل أو...
قطع أفكارها صوت نغمة هاتفها المحمول وهو يعلن وصول رسالة.. تنهدت وهي تخرج هاتفها المحمول من حقيبتها وتتطلع إلى تلك الرسالة المرسلة من هشام..والتي كانت تقول..(ما هي آخر الأخبار؟)..
ارتسمت ابتسامة على شفتيها.. يظنها قد باشرت العمل الآن وتعلم بآخر أخبار العالم..لو يدرك انها لم تجد حتى مكتب لتجلس عليه ..
أرسلت له رسالة تقول..(قم بشراء الصحف..فلن اقوم بتسريب اية معلومات)..
وما ان فعلت حتى سمعت صوت أحد الأشخاص وهو يدلف الى القسم قائلا: لقد ظننت إنني قد استدعيت من قبل المدير حتى يخصم من راتبي لـتأخري بالأمس.. ولكن حمد لله كان أمرا مختلف تماما..لقد...
بتر عبارته عندما لمح وعد تجلس خلف مكتبه.. وقال مبتسما وهو يلتفت لها: عفوا.. من أنت يا آنسة؟
قالت في هدوء: موظفة جديدة هنا..ولا أعلم اين أجلس حتى..
اتسعت ابتسامته وهو يقول: لا عليك.. لقد تم استدعائي من قبل المدير لأجل هذا الأمر تحديدا..
قالت متسائلة: من أجل إحضار مكتب لي؟..
ضحك وقال: كلا من أجل تدريبك على العمل هنا.. وإعطائك فكرة عن المبنى..
وأردف وهو يغمز بعينه: أما عن المكتب فلا تقلقي..سأرسل احدهم في إحضار مكتب لك..
ابتسمت وقالت: شكرا لك..
لوح بكفه وقال: لا داعي للشكر يا آنسة..
واردف مبتسما: مع انني استحقه..
اتسعت ابتسامتها بالرغم منها.. فقال ذلك الشاب وهو يميل نحوها: أعرفك بنفسي..أحمد فؤاد..صحفي واكتب بالصفحة الرئيسية..
وأردف متسائلا: وماذا عنك يا آنسة.. لم تعرفيني بنفسك..
نهضت من خلف المكتب وقالت : وعد عادل.. صحفية وأكتب بالصفحة الرئيسية ايضا..
مد يده مصافحا وقال مبتسما: تشرفنا..
صافحته بهدوء فأردف قائلا: هيا.. فأمامنا تدريب طويل..
أومأت برأسها وهي تلتقط حقيبتها من فوق المكتب.. وقبل أن تغادر معه.. القت نظرة مختلسة على طارق..ذلك الشاب البارد الذي استطاع ان يجذب انتباهها له..
* * * * * *
(اعملوا بجد أكبر..لن ننتهي من موقع البناء هذا ان بقيتم متقاعسين هكذا)
قالها هشام وهو يتحدث الى العمال الذين يقومون ببناء تلك العمارة في احدى المدن الكبرى بالدولة..وأردف وهو يضع كفه عند جبينه ليحمي عينيه من الشمس: أريد الانتهاء منها قبيل الشهران القادمان..لا اريد أي تقاعس..
جاءه احد العمال وقال وهو يلتقط نفسا عميقا: سيد هشام.. نحن بحاجة للمزيد من الاسمنت..
قال هشام وهو يعقد حاجبيه: أخبر المسئول عن هذا الامر بحاجتكم من مواد البناء..
قال العامل: لقد اخبرناه.. ولكنه يرفض..
- ولم؟
- يقول اننا نستخدم المواد بكميات كبيرة..بينما موقع البناء لا يحتاج الا لنصف هذه الكمية..
قال هشام في هدوء: سأرى الأمر وأتحدث الى المسئول بهذا الشأن..
وابتعد عن المكان ليتوجه الى سيارته..واتصل بالمسئول ليناقش معه الأمر..وما ان انتهى.. حتى أغلق هاتفه وقال بملل: يا له من شخص صعب المراس..
اسند رأسه الى مسند المقعد وهو يعود للتفكير.. ومحور تفكيره هو شخص واحد أو فتاة واحدة على الأحرى.. وعد.. ترى ما الذي يجعلني أشعر بهذه المشاعر تجاهك؟.. ما الذي يجذبني اليك؟..بماذا تختلفين عن باقي الفتيات؟..هل هو عنادك؟.. ام مرحك وحيويتك؟.. رقتك أم عصيبتك؟.. لم أعد أعلم يا وعد سوى أمر واحد فقط.. حتى وان لم تكوني تفهمينه..أو حتى تقدرينه وسترينه يوما ما..انك الوحيدة التي استطاعت امتلاك اغلى ما أملك...استطاعت امتلاك تفكيري وعقلي و...قلبي...
ولكن هيهات يا وعد.. هيهات أن أخبرك بما احمله لك من مشاعر حتى ولو انطبقت السماء على الأرض..مادمت لا تفهمينها أو تشعرين بي حتى.. أعلم انك لا ترين أمامك سوى ابن عم فقط.. ابن عم ولا شيء آخر..ولكني سأنتظر.. سأنتظر حتى ترين حبي هذا وتبادلينه بحب أقوى منه يوما ما..
لن استسلم.. قبل أن أرى الحب يلمع في عينيك.. والهيام تعبر عنه شفتاك.. لن استسلم حتى تبادليني هذا الحب يوما.. هذا وعد أقطعه على نفسي.. ولن أخلف بوعدي هذا مهما حدث....
ترى أأنت محق فيما تقوله يا هشام..هل ستتمكن من أن تجعل وعد الصلبة والعنيدة تبادلك حبا بآخر؟..من جانبي فأنا ارى نسبة النجاح ضئيلة.. ولكن من يدري فلندع الايام هي من تحكم...
* * * * * *
كانت وعد تستمع الى أحمد باهتمام والذي كان يشرح لها طريقة استعمال الكاميرا لتصوير مختلف المناطق ومن مختلف الجهات..واختلاف الوقت أيضا.. وقال وهو يشير الى احد الأزرار بالكاميرا الديجتال (digital): عندما تضغطين على هذا الزر يا آنسة وعد..سوف تقوم الكاميرا بأخذ فترة معينة .. خمس ثوان مثلا..حتى تقوم بالتصوير وهذا يسمح لك بضبط وضع الصورة بطريقة افضل.. أو أن تقومي بتصوير نفسك مع ما ترغبين بتصويره..
قالت مبتسمة: هل عملي سيكون مقتصرا على التصوير؟
قال مبتسما بدوره: بالتأكيد لا .. لم نطلب في الوظيفة مصورا فوتوغرافيا..لكن تعلمين أهمية الصور مع أي خبر أو حدث..
اومأت برأسها وقالت: بلى أعلم..فقد تجذب الصورة الشخص لقراءة الخبر بالصحيفة..
- أجل ولهذا ينبغي أن تكون واضحة ومعبرة..
- أفهم هذا..
قال أحمد وكأنه لم يستمع الى عبارتها السابقة: والآن انت تعرفين بما يتعلق بالمقال الذي ستكتبينه بعد كل حدث وما يحتويه..من...
قاطعته مبتسمة وهي تكمل: من عنوان وتاريخ.. الوقت والمكان.. إضافة جميع الأمور الهامة ولكن بصورة مختصرة وغير غامضة.. أليس كذلك؟
قال مبتسما: ياه.. هل كلامي سهل الحفظ إلى هذه الدرجة؟
قالت وابتساماتها تتسع: بل أنا من لدي القدرة على استيعاب الحديث وحفظه في سرعة..
قال وهو يغمز لها: هذا واضح..
صمتت للحظات ومن ثم قالت: هل لي بسؤال؟
- بالتأكيد..
أدارت الأمر في رأسها طويلا ومن ثم قالت: أتعرف الأستاذ طارق منذ فترة؟
قال بحيرة: بلى منذ ثلاث سنوات.. لم؟
قالت وهي تعقد حاجبيها: لا لشيء.. ولكني أحسسته غريب الطباع.. هادئ بشكل كبير الى درجة تجعله اقرب الى البرود.. لا يهتم بأحد ولا يفكر إلا بنفسه..
قال مبتسما: معك حق في كل ما قلتيه.. ولكن أضيف الى هذا انه ذا قلب ابيض ومتعاون الى ابعد الحدود.. لن يتأخر على مساعدة أي احد لو طلب منه ذلك او حتى لو لم يطلب .. لكنه مع هذا صارم وحازم في تصرفاته.. تجبر الجميع على احترامه..
قالت وعد وهي تمط شفتيها: اعتقد بأنه شاب مغرور..
هز أحمد كتفيه وقال: الجميع اعتقد هذا في البداية.. ولكن صدقيني ستعرفين مع الوقت معدنه الحقيقي..
ومن ثم قال وهو يتطلع الى ساعة معصمه الفضية: هيا فلنصعد الى الطابق الأعلى.. فقد انتهى تدريبك لهذا اليوم ولنا لقاء بالغد..
قالت في هدوء: أشكرك.. ومعذرة ان كنت قد تسببت في إزعاجك..
قال مبتسما: ولو.. أنا دائما في الخدمة..
فكرة بسيطة التقطتها وعد عن أحمد.. شاب نشيط وجاد في عمله.. لكنه في الوقت ذاته يتميز بروحه المرحة التي تذيب الحواجز بينه وبين أي شخص يراه لأول مرة.. وتظن انه في الثلاثينيات من عمره أو أصغر بقليل..
وقال أحمد في تلك اللحظة مقاطعا لأفكارها وهما يستقلان المصعد: نسيت أن أخبرك.. أن طارق هو الصحفي الأكفأ تقريبا في هذه الصحيفة..
التفتت له وقالت بدهشة: أحقا؟
أومأ برأسه وقال وهو يضغط على زر الطابق الثاني: أجل.. والجميع يحاول أن يصل الى ما وصل اليه هذا الشاب الذي يلقبه الجميع هنا بـ"الجليد المتحرك"..
قالت وعد مبتسمة: حقا هو كذلك..
قال أحمد وهو يلتفت لها: صدقيني مادمت لا تعرفينه جيدا فسوف تحكمين عليه بشكل خاطئ..
هزت وعد كتفيها في لا مبالاة.. ووصل المصعد في تلك اللحظة الى الطابق الثاني..فخرجت وعد منه يتبعها أحمد.. ودلفا الى مكتب الصفحة الرئيسية..وهذا الأخير يقول: غدا سنكمل باقي التدريبات وسأعرفك على المراحل التي يمر فيها الخبر أو الموضوع قبل نشره..
أومأت وعد برأسها.. وهي تتجه لتجلس خلف مكتبها الذي كان يتوسط مكتب أحمد وطارق بينما يقابله مكتب السيدة التي تدعى (نادية)..
والتقطت قلم حبر جاف وخطت فوق إحدى الأوراق الموجودة أمامها أول شيء خطر في ذهنها.."الجليد المتحرك".. وارتسمت ابتسامة باهتة على شفتيها..وهي تقرأ هذه العبارة مرارا وتختلس نظرات متفرقة وغير ملحوظة الى طارق..
وبغتة..انطلق رنين هاتفها المحمول.. فأسرعت ترسم خطوطا على العبارة حتى تخفيها وتمنع أي شخص من ملاحظتها.. والتقطت هاتفها لتتطلع الى الرقم قبل أن تجيبه قائلة بابتسامة واسعة: أهلا هشام..
قال هشام ببرود: ما هذا؟ أتخشين على فاتورة الهاتف لهذه الدرجة..ان كنت كذلك فسأدفع أنا قيمة فاتورة هذا الشهر..
ابتسمت وعد بمرح وقالت: لم؟.. مع إني أرحب بفكرة ان تدفع عني أنت فاتورة هذا الشهر..
قال مستاءا: ألم اطلب منك لاتصال بي وإخباري بكل ما يستجد؟..
- أجل.. وأخبرتك أنا إني سأفعل ان وجدت الوقت الكافي..
- وما الشيء الهام الذي كان يشغل وقتك ويمنعك من الاتصال بي؟..
قالت وعد مبتسمة: أنا الآن صحفية.. وهذا يعني انني سأكون على انشغال تام.. فقد كنت أتدرب على إعداد التقارير وتصوير المناظر المختلفة...
- أحقا ؟..اذا يمكنك اعداد تقرير عن المبنى الذي وضعت الرسوم الهندسية له وأشرف على بناءه الآن..
- كلا..لا تحرجني.. لا أريد أن أكون موضع للنقد والشتم بعد أن يسقط المبنى..
قال هشام مبتسما: ولم كل هذا التفاؤل؟..
ضحكت وعد بخفة وقالت: حتى تعلم انني أخشى على مستقبلي المهني من....
(كفاك إزعاجاً هنا)
كانت هذه العبارة كافية لأن تصمت وعد وترغمها على ابتلاع كلماتها التي كانت على طرف لسانها منذ قليل..والتفتت الى مصدر الصوت لتتطلع الى ناطق العبارة السابقة.. ودُهشت..بل ذُهلت عندما شاهدت انه طارق نفسه!..
وسمعت صوت هشام عبر الهاتف وهو يقول مستغربا صمتها: وعد ألا زلت على الخط؟..وعد..
انهت وعد المكالمة دون ان ترد على هشام حتى..وأغلقت الهاتف دون ادراك منها..قبل أن تلتفت الى طارق وقالت بصوت يمتلئ بالدهشة: ماذا؟
قال طارق بصرامة وببرود شديد في الوقت ذاته : عليك ان تعلمي انه مكان للعمل.. وليس للمحادثات الشخصية..انك تزعجيننا وتمنعينا من مواصلة العمل بهدوء..
تطلعت اليه وعد ودهشتها تتفاقم من هذه اللهجة الصارمة وهذه الكلمات القاسية التي قالها لها منذ قليل..دون ان يتحلى بقواعد الأدب في الحديث معها مع انها تراه وتتحدث اليه للمرة الثانية وحسب..من يظن نفسه؟..مغرور..
وقالت وهي تنهض من خلف مكتبها: عن إذنكم..
قالتها وابتعدت خارجة من المكتب.. في حين أحس أحمد بالموقف المحرج الذي وضعت وعد فيه والذي لم يكن له أي داعي من الأساس..وقال مخاطبا طارق: لماذا تحدثت إليها بهذه الطريقة؟..
قال طارق وهو يعود للتركيز في عمله: أي طريقة؟
قال أحمد بهدوء: انها موظفة جديدة هنا.. ولم تعرف بعد الا القليل عن هذا المكان.. فلم تكون قاسيا وتتحدث اليها هكذا..
- حتى تفهم..إنها في مكان للعمل..ولن أسمح لأي شخص هنا بالاستهتار في عمله..
- ولكنها لم تعتد المكان بعد.. ثم لا عمل لديها بعد هذا التدريب الذي خضعت له هذا اليوم..
لم يعلق طارق بل اكتفى بنظرة باردة ألقاها على أحمد وعاد لمواصلة عمله..وهز أحمد رأسه اعتراضا وعاد لمواصلة عمله بدوره...
* * * * * *
أوقفت وعد سيارتها الحمراء الى جوار المنزل عند الساعة الثانية ظهرا تقريبا..والابتسامة التي كانت تحملها عندما خرجت من المنزل تحولت الى غضب وتجهم وهي تعود اليه.. دلفت الى المنزل وصعدت الى الطابق الأعلى دون أن تلقي التحية على والدتها أو والدها حتى..
وأغلقت على نفسها باب الغرفة قبل أن تستلقي على الفراش.. وتغرق بتفكير عميق..عن كل ما حدث هذا اليوم.. بدءا من بحثها عن القسم الذي ستعمل به..وانتهاءا بعودتها إلى المنزل..كل شيء كان يسير على ما يرام حتى...
حتى أحرجها ذلك المغرور أمام الجميع..كان بإمكانه أن يخبرها بأن تنهي مكالمتها بشيء من الأدب والأخلاق لا أن يتسبب في موقف كهذا لها أمام الجميع وكأنها قد فعلت ذلك متعمدة..وتعمدت إزعاجهم..تبا..تبا له..أي يوم هو هذا.. في البداية لا أجد حتى مكتب لأجلس عليه ثم يحرجني ذلك المغرور بقوله انه لا شأن له بالأمر..ويعود مرة أحرى ليحرجني أمام الجميع عندما كنت أتحدث بالهاتف.. إلا يعلم انه اليوم الأول لي بالعمل واني لم استلم وظيفتي الا منذ ساعات؟..
تقلبت على فراشها بملل.. وتذكرت بغتة أن هاتفها قد أغلقته منذ ذلك الحين.. فالتقطته من حقيبتها وقامت بفتحه لترى تلك الرسالة القصيرة المرسلة اليها..عرفت انها من هشام قبل ان تفتحها..وقرأت كلماتها في سرعة والتي كانت تقول (سترين يا وعد.. تغلقين الهاتف في وجهي.. لا تحاولي الإنكار.. أعلم بأن البطارية لم تفرغ..)..
أي شيء تفكر فيه يا هشام..أنا أفكر في ما حدث لي وأنت تفكر في هذه الأمور التافهة..
وحطم الصمت الذي غلف المكان منذ مدة صوت رنين الهاتف المتواصل..فمطت شفتيها وهي تطلع إلى رقم هشام الذي أخذ يضيء على شاشته..ورمت الهاتف على الفراش وهي تقول بعناد: لن أجيبه.. أعلم بأنه سيفتح معي محاضرة لا بداية لها ولا نهاية.. ورأسي لا يكاد يحتمل كلمة أخرى بعد كل ما حدث..
وتوقف الهاتف على الرنين.. فتنهدت وعد بارتياح وما كادت تفعل حتى عاد للرنين مرة أخرى..فتطلعت إلى الهاتف باستنكار قبل أن ترمي الوسادة عليه وتقول بحنق: لن أجيب.. يعني لن أجيب..
وكلما يتوقف الرنين للحظة.. يعود من جديد لدقائق..واستسلمت وعد أخيرا – مع انها لم تعتد الاستسلام- ولكن صوت الرنين المزعج هو ما دفعها لإجابته وهي تقول بصوت لا يخفي الضيق منه: أجل يا هشام..ماذا تريد؟..
قال هشام بسخرية: لا شيء..سماع صوتك فقط..
قالت وعد متحدثة الى نفسها بعصبية: (لا ينقصني إلا سخريتك أنت)
وأجابت على هشام قائلة: فليكن مادمت قد سمعته الآن.. الى اللقاء..
قال في سرعة: ما بالك ؟..هل أصابتك اصابة ما على رأسك في العمل ..حتى تفقدك عقلك؟..
قالت مستفزة: في الحقيقة.. كلا..
- اذا ماذا حدث لك اليوم؟..أخبريني لماذا لم تجيبي على اتصالاتي المتكررة ؟..
قالت وعد بسخرية: لأني اضع لك في هاتفي نغمة خاصة تشير الى انك المتصل..
قال بسخرية بدوره: وهل هذه النغمة تدعو الى النوم الى هذه الدرجة حتى انك ربما تكونين قد غفوت ولم تسمعيها..
قالت وعد بسخرية لاذعة: بل انها نغمة صامتة..
قال هشام ببرود: استمعي إلي يا وعد..سؤال لن أعيده.. لماذا أغلقت هاتفك اليوم وأنا أتحدث إليك صباحا؟..
قالت هازة كتفيها وهي تعود للاستلقاء على فراشها: أظنك قد أجبت على نفسك في تلك الرسالة القصيرة.. البطارية فرغت..
قال وهو يمط شفتيه: إياك والكذب فأنا اعرف كيف يكون وضع الهاتف عندما تنهين المكالمة بنفسك أو إذا فرغت بطاريته..
قالت بملل: هنيئا لي.. لدي ابن عم خبير بالهواتف وأنا لا أعلم.. كان الأجدر بك ان تعمل في متجر لبيع الهواتف.. فذلك يليق بك أكثر و..
قاطعها بحدة: أجيبي عن سؤالي يا وعد..
- هل هذا تهديد؟
- بل أمر..
قالت بسخرية: اذا لن أجيب..
قال هشام بغضب: وعد..تحدثي الي جيدا أو اقسم على ان تندمي..
قالت بضيق: ماذا تريدني أن أقول.. أغلقته بغير قصد مني..ثم ما لبثت أن أقفلته حتى لا يزعجني أحد..لأني انشغلت ببعض الأعمال..ونسيت إعادة فتحه حتى هذه اللحظة..
قال بشك: لا أصدق كلامك هذا..
- هذه مشكلتك وليست مشكلتي.. على العموم أنا متعبة وبحاجة للراحة..لذا دعني ارتح قليلا وانام. ولا تزعجني باتصالاتك..
قال هشام ساخرا: نوما هنيئا يا سمو الأميرة..
قالت بابتسامة باهتة: أشكرك.. مع السلامة..
قالتها وأغلقت الهاتف في سرعة وقالت متحدثة الى نفسها وهي تضع الهاتف على منضدة صغيرة قريبة من فراشها : )هذا أنت يا هشام لن تتغير ابدا.. ستظل تلاحقني وتلا حق كل تحركاتي خطوة بخطوة..وأنت الأعلم بمدى ضيقي بأن يُحكم الحصار حولي..تظن إن بهذا الشيء تهتم بي..لكنك على العكس تجعلني اشعر بالملل من تصرفاتك.. او بالاختناق على الأحرى)..
وأغمضت عينيها بملل ونلك الكلمة تعود لترن في اذنيها..(كفاك إزعاجا هنا)..ستندم يا هذا ... ستندم على كل ما سببته لي من إحراج..سأريك..أنت لم تعلم بعد من هي وعد..إنها كتلة من العناد والكبرياء..أقسم على أن أجعلك تتخلى عن برودك هذا وتحترم تصرفاتك وحديثك معي..سأريك يا ايها "الجليد المتحرك".. واعلم إن وعد لم تخن عهدا قط....
* * * * * *
ارجو ان لا تبخلوا علي بالردود لانها تفرحني جدااااااااااااااااااااااااااا